ما وراء القضبان
***********
كان يعيش شاب في إحدى شوارع القاهرة .. كان هو الابن الوحيد لوالديه ، توفي والده وهو في مرحلة الثانوية العامة ، حزنت والدته كثيرا ، ولكنها تحملت وصبرت من أجل ابنها .. عملت في أعمال كثيرة من أجل أن يكمل ابنها تعليمه. واستمرت هكذا إلى أن وصل ابنها إلى المرحلة الجماعية ...
وللأسف .. هكذا الإنسان دائما يلقي نفسه للتهلكة .. فقد كان هذا الشاب خياليا ، يحلم بأحلام كثيرة كبيرة تفوق مقدرته المعيشية ، وتكاد تكون مستحيلة ، وهذا جعله لقمة سائغة للشيطان الذي أوقعه في حبائله ودفعه للانضمام إلى أصدقاء السوء ، حيث المتعة الحرام والوعي الغائب عن كل شيء ...
وشيئا فشئ بدأوا وهو معهم يسعون إلى طريق الشر الذي بدأ يتعاطى المواد المخدرة ،وانتهي بالاتجار فيها .. وقاده إدمانه وفقره وحاجته القاتلة بجرعة السم في موعدها للإتجار في السم ، وجلب الزبائن ، والدفع بهم إلى طريق الموت بحثا عن المال الذي كان يحلم به ، ويرى أن من حقه امتلاك ثروة في يوم من الأيام .. ولكن للأسف وكما تعلموا ، بأن الثراء السريع دائما يأتي بالتحالف مع الشيطان – ومع الوقت صور له غروره بكثرة المال معه ، بأنه أوشك على تحقيق حلمه المستحيل ، وإنه أبدا لن يسقط في قبضة رجال الشرطة ...
فقد تصور بأنه قد اكتسب خبرة كبيرة ، بسبب معاملاته الكثيرة مع تجار المخدرات ، القدرة على المراوغة والتخفي والتعامل مع رجال الشرطة وتضليلهم ...
ولكنها الأقدار التي تحول دون أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. ، ويتصور الإنسان نفسه إنه سوف يستمر كثيرا في الاختفاء والمراوغة – ولكنه في يوم وليلة وجد نفسه ، وقد وقع في قبضة رجال الشرطة متلبسا بجريمته ، وسرعان ما غبت خلف القضبان يقضي عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة ...!!
في البداية كان يلعن حظه التعس الذي جعله يسقط في قبضه رجال الشرطة ، ويفقد كل شيء ، الأحلام والمال الذي سعي إليه ضحى من أجله بكل شيء .. بوالدته التي تحملت من أجله وصبرت وكافحت من أجل إكمال تعليمه الدراسي ، إذ أن والدته عندما علمت بأنه قبض عليه ، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، أصيبت بصدمة توفت على أثرها !!
وضحى أيضاً بنفسه في إنه كان من الممكن أن يجعل من نفسه إنسانا شريفا يقدره ويحترمه الآخرون ، وإنه ضحى في أن يكون في يوما ما زوجا صالحا وأبا محترما ... !!
كل ما كان يطمع إليه هو كسب السعادة واللذة الوهيمة قدر طاقته .. أما الآن وبعد أن دخل السجن لأول مرة في حياته لم يعد يحيط به إلا الظلام وقسوة الجدران الغليظة ، ولم يدر بقول الله جل جلاله :
( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم )
فقد تغير في السجن تغييرا جذريا بعد أن استطاع التخلص من حالة الإدمان التي تملكت منه تماما ، ووقتها وجد نفسه يفكر بشكل مختلف ، وبدأ يتحدث قائلا:
" لم أكن أتصور أن أصبح في يوما ما مدمنا للسموم ، وتاجرا لها ، وأن أضحى بأغلى ما عندي (أمي الغالية) التي توفيت بسببي ، ومنذ أن دخلت السجن وبعد أن قضيت سنوات طويلة خلف الأسوار حتى اعتدت على هذه الحياة إلى أن بت زاهدا في الخروج إلى الدنيا مرة ثانية.
على عكس أي إنسان دفعته أقداره لأن يأتي إلى هذا المكان فمن الطبيعي أن يكون سعيدا عندما تقترب فترة سجنه من نهايتها ، وذلك لأنني لا أحلم بالخروج ، ولا انتظره ...
فليس هناك أحد ينتظرني بالخارج ، لا أهل ، ولا زوجة ، ولا أولاد ، ولا حتى نقطة بداية جديدة أتعايش من خلالها مع الناس والمجتمع ...
فليس هناك من يتسع وعيه لكي يتقبل مجرما خارجا لتوه من السجن ، ويقتنع بأنه قد خرج شخصا آخر بعد أن أزالت فترة السجن عن كاهله جرمه وخطأه نحو نفسه ومجتمعه ، ليكون إنسانا آخر مهيأ لحياة جديدة ...
وما بين حالة اليأس التي تمتلكني في السجن لما فعلته في حق نفسي بجريمتي هذه ، وبقائي في الحياة وحيدا محروما ، الأهل والابن والأسرة ، وما بين حالة الرفض القاسية لأي سجين .. ما بين الحالتين ، أجدنى رافضا الخروج الذي أعلم إنه قد اقترب ولكن ماذا في يدي ؟!! ".
هذا ما قاله ، ثم تساءل قائلا: " لماذا لا أكون شخصا آخر غير الذي أتى إلى هذا المكان؟ ".
ف بالفعل استطاع التعايش مع واقعه الجديد الذي لم يكن فيه ما يسري عنه إلا التردد على مكتبه السجن لقراءة الكتب الدينية وتصفح الجرائد .. وبدأ الوقت يمضي به حتى إنه بات لم يشعر بالزمن حيث لم يعد هناك في رأيه قيمة للوقت الذي مضى أو حتى الذي سوف يأتي ، حتى علم إنه على وشك الخروج ، فبدأ يواجه نفسه مرة أخرى ...
كيف لي أن أعيش مع الناس مرة أخرى؟ ، بالتأكيد هم سوف يلفظونني وينظرون إلىَّ على أني المجرم الذي يشكل خطرا محدقا بهم ، ولذلك يجب أن يتجنبوني لأعيش مرة أخرى .. حبيس وحدتي وتتحول الدنيا بقدر رحابتها إلى سجن كبير .. لذلك أتمنى أن أجد النبرات التي استضئ بها فيما أنا مقبل عليه ...!
وإلى هناك تنتهي قصة هذا الشاب ، ولكن .. لي رأي أحب أن أضيفه لمن يكون في مثل مأساة هذا الشاب بطل قصتى هذه ، وهو:
يجب أن ترفقوا بأنفسكم ، فأنتم من التوابين الذين يحبهم الله ، وإن كنتم بدأتم حياتكم بخطأ ، فها أنتم قد كفرتم عنه ، واتجهتم إلى الله سبحانه وتعالي بتوبتكم ، وهذا منحكم القدرة على التعايش مع أيام السجن الطويلة ولياليها ...
وإن كان الله – جل كرمه – قد يسر لكم هذه السنوات والأسوار القاسية التي تحيط بكم من كل جانب ، فليس عسيرا عليه أن يمهد لكم قلوب البشر الذين أنتم خارجون لهم ، ولكن أن تتذكروا قول سيدنا محمد – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – لابن عباس – رضي الله عنه – عندما قال له: ( يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) صدق رسول الله (صل الله عليه وسلم ) ...
وعليكم أن تثقوا في أن الله – عظم قدره – لن يتخلى عنكم فأقدموا على حياتكم الجديدة لعلها تكون المرحلة الأهم في حياتكم كلها ، والتي تقابلوا في نهايتها ربكم ، وقد أحسن خاتمتكم ...
بتاريخ : 30/11/2007م